في كتاب مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق يقدّم ابنُ مسكويه منظومة أخلاقية راقية لبناء النفس الإنسانية. يبيّن أن الإنسان مخلوق فطريّ الخير يمكن أن يرفع من مقامه بفهم ذاته ورعاية طباعة. إن تعلُّق الإنسان بالقيم الجميلة وفضائل الأخلاق يرافقه أينما كان، ويجعله محلّ احترام وثقة المحيطين. وقد رسم ابنُ مسكويه خطّة واضحة لتهذيب النفس عبر المعرفة والتمرُّس والتدرُّج في الفضائل.
الصبر والثبات
الصبر من أسمى هذه الفضائل. فالصبر هو مقاومة النفس هواها لئلا تنقاد لقبائح اللذات . به يتحمل الإنسان مصاعب الحياة بهدوء وثبات، ولا ينقاد لجزع أو غضب سريع. يقول ابنُ مسكويه إنّ علينا أن نُعوِّدَ أنفسنا الصبر على ما يجب الصبر عليه ونضبط الشهوة عن مغريات الرذائل . فالإنسان الصبور يحظى بتقدير الناس؛ إذ يُنظر إليه على أنّه قوي الإرادة وحكيم في مخاطبة أمور الحياة.
العدل والتوازن
والعدل كذلك من الفضائل الجليلة التي ترفع مكانة صاحبها. يعرف ابنُ مسكويه العدل بأنّه “إعطاء ما يجب لكل ذي حقٍّ كما ينبغي” . فالعدل يقتضي أن يفي الإنسان بما عليه من حقوق ويعامل الناس بالإنصاف في القول والفعل. عندما يسلك المرء سبيل العدل في معاملاته، تزداد ثقة الناس به وتعلو منازله في المجتمع، إذ ينشأ حوله جوٌّ من الاحترام والاعتماد. وقد أكد ابنُ مسكويه أنّ العدل من ضمانات توازن المجتمع، فكما أنه أساسٌ في فعل الحاكم الصالح (“الملك الفاضل إذا أمن السرب وبسط العدل…”)، فهو أيضاً قيمة يومية في شؤون الناس الصغرى والكبرى.
الحلم والسلام الداخلي
وإذا كان الصبر يحمينا من جزع المصائب، فإن الحلم يُحضِّر النفس للطمأنينة. يعرّف ابن مسكويه الحلم بأنّه فضيلةٌ تمنح النفس الهدوء والسكينة بحيث «لا تكون شغبة ولا يحركها الغضب بسهولة وسرعة» . بالمقابل، فالنفس النافذة والرحيمة تبرز قوتها في علوّ البأس، لكنْ الحليم لا يتسرّع إلى الغضب ولا ينهر صغيراً ولا عاصفاً. في الحياة اليومية، يظهر الحلم في تعامُل الإنسان بلطف واحتواء، فكأنّه يغض النظر عمّا قد يثير غضبه، ويُجاهل إساءة بقلبٍ صبور. مثلاً، حين يصرّ علينا الزملاء في العمل أو الأقرباء بآراء شائكة، يردُّ الحليم بابتسامة وكلمة رخيمة. هذه الطباع تزيد من احترام الناس له وتكوين حوله سمعة طيّبة، لأنّه مثال للإنسان المتأنّي والحكيم.
التواضع وآداب المروءة
ومن مكارم الأخلاق الجميلة التواضع، فقد عظّم ابن مسكويه أدب الذلّ الحسَن في التعامل. فمن تواضع لله رفعه. فالمتواضع لا يفتخر بما يملكه عن أقرانه، بل “يتواضع لكل أحد ويكرّم كل من عاشره” . يتجنب المداهنة والتكبّر، ويخاطب كل إنسان بلغة الاحترام والمودة. في الصور اليومية، قد يعني التواضع عدم التفلّت في التصرفات وحسن الإصغاء للآخرين وتقديم المساعدة دون شعور بالتعالي. هكذا يتزيّن المرء بطابع رحيم، فيبادله الناس محبة وتقديراً، ويزدادُ في أعينهم قيمة.
الزهد والقناعة
ويُعدُّ الزهد في الدنيا قيمة معنوية تعزّز قيمة الإنسان الأخلاقية. يقول ابن مسكويه إنّ البعض يترك الدنيا ويتفرّد في الزهد “كما لو أنهم تركوا قليلَها ليبلغوا إلى كثيرها، وأعرضوا عن الفانيات منها ليبلغوا إلى الباقيات” . فهؤلاء يستنيرون بأنهم يقصّرون ما هو قليل في الدنيا ليبلغوا المقام الأعلى في الآخرة. لكنّه يحذّر أيضاً من الزهدَ السلبي المنعزل عن الناس، لأنه يَجرد صاحبَه من فضائل المجتمع. فقد ذمَّ المنزوين الذين “سكنوا الجبال… فإنهم ينسلخون عن جميع الفضائل الخلقية التي ذكرها” . فالزهد الحقّ عند ابن مسكويه هو قدرٌ مقبول من الاعتدال: ألا تسعى النفس وراء الدنيا ومفاتنها، وأن تلتزم أعمال البر والإنسانية في كل الأحوال. بهذا يظل الناس يُكنّون للزاهد إكباراً، باعتباره عالماً بمادّة الدنيا وداعياً إلى قيم عليا، فيزداد منزلة في أعين الجميع.
خطواتٌ لتهذيب النفس
ويلخّص ابن مسكويه أن تهذيب النفس يبنى بالتدريب والدأب. يعلّمنا أن نُعوِّدَ أنفسنا على الفضائل فأولها الصبر على البلاء، والحلم مع المؤمنين ، وضبط النفس عن الشهوات الدنيئة. كما يوجّهنا إلى معرفة عيوبنا ومحاسبة أنفسنا، مثلاً بجعل الصديق الصالح يذكّرنا بسلبياتنا كما ورد عن الطبقات السابقة . كذلك تنفع مواساة العلماء بالكتب والتسبيح وأخذ العبرة من قصص الأخيار؛ فكلما استقام سلوكنا تحققت فينا هذه الفضائل.
تلك القيم الشخصية الرفيعة هي التي تصنع من الإنسان صاحب مقامٍ عالٍ في كل محفل. فالقوي بقيمه لا يُرهبُه جهلٌ ولا يغرّه مال أو جاه، بل ينهل من عقله ومعرفته، وينخرط في الحياة بذاتية كريمة. من حسَّن خَلقه وانتظم طباعه صار مطلباً للقلوب، وازداد احترامُه في المجتمع. يقول ابن مسكويه إنّ الإنسان الفاضل يحيا “حياة إلهية” بعقلانيته واخلاصه، فيرتقي بمقامه في الدنيا والآخرة.